كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال قلت لعبد الله بن أبي أو رأيت ابراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مات صغيرًا ولو قضى بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه.
وأخرج ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن له مرضعًا في الجنة ولو عاش لكان صديقًا نبيًا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي» وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيًا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم، ومثله ابن عبد البر فقد قال في التمهيد: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيًا لكان كل أحد نبيًا لأنهم من نوح عليه السلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الإخبار عن مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيًا لا لكونه ابن النبي صلى الله عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم و{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 4 12] وحينئذٍ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيًا منع ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيًا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش.
وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السلام ونبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم عليه وأفلضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.
فإن قيل: إنه عوض صلى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» إلا أنه لا نبي بعدي قلنا.
فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسلام أولادًا ذكورًا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلابد من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: {رَسُولِ الله} كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلى الله عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهو تنافي خاتميته. اهـ.
وفيه أن الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولًا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقى حكمه صلى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشىء من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريم لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: {يا قوم ليس بي سفاهة ولكني من رَبّ العالمين} [الأعراف: 7 6] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكًا بالمعنى الأول اه فليتأمل.
ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية: إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السلام، ثم نقل عن السبكي كلامًا في حديث: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيًا ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره اهـ. وفيه بحث.
وخبر أنه عليه الصلاة والسلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي» في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله، والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد: {خاتم} فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك.
وقرأ الجمهور {الله وَخَاتَمَ} بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضًا، وفي حرف ابن مسعود ولكن نبيًا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة.
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان لأنه كان نبيًا قبل تحلي نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلًا وفرعًا فلا يكون إليه عليه السلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاكمًا من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنة وهو عليه السلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى ينزل حكمًا عدلًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية» فنزوله عليه السلام غاية لإقرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد، وقوله: أنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها بحال لكنه لا يتعبد بها الخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسلام ولذا لم يتقدم لإمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السلام فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضًا، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكمًا، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في البحور الزاخرة وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرًا في الكتاب والسنة فبعيد وإن كان عليه السلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنة على الوجه المعروف.
نعم لا يبعد أن يكون عليه السلام قد علم في السماء بعضًا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة في بعض آخر، وقيل: إنه عليه السلام يأخذ الأحكام من نبينا صلى الله عليه وسلم شفاهًا بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسلام، وأيد بحديث أبي يعلى: «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه».
وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء: قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعًا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فارتج علي فرأيت عليًا كرم الله تعالى وجهه قائمًا بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستًا فقلت: لم لا تكلمها سبعًا قال: أبدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع، وقال أيضًا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله عليه الصلاة والسلام يقظة ومنامًا فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم يقظة ومنامًا ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالًا وبلادًا فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدًا.
وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».
وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة.
وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل: المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذٍ غائبًا عنه فيكون الخبر مبشرًا له بأنه لابد أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري: هذا الحديث يدل على أن من يراه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسلام أو هذا كان في حياته وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته عليه الصلاة والسلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى المراد منه، ثم إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالًا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال:
والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال: بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال. اهـ.
وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارًا كثيرة تشهد له.
منها ما أخرجه ابن حبان في تاريخه، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحًا» ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يومًا، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح، ومنها ما ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم علي ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروي أكثر من يومين.
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسلام التي هي أكمل الأرواح تجردًا وتقدسًا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمان واحد في أقطار متباعدة ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ** يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا

وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذٍ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلى الله عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسلام: وآخر مظان تحققها وقت الموت.